ثالثا : طَلْعَةُ الظّهور أو البَهَائيّة
البهائية نسبة إلى بهاء الله هو الّلقب الّذي عُرف به ميرزا حسين علي المازندرانى ( 1) ، كان أبوه ميرزا عبّاس المعروف بميرزا بزرﮒ، أحد النّبلاء( 2) المقرّبين إلى بلاط الملك فتح علي شاه، وحاكمًا على منطقة بروجرد ولُرستان. تلقى تعليمه الأوّلي في المنزل كعادة أبناء الوزراء آنذاك. عُرِضَ عليه منصب والده بعد وفاته فرفض وانصرف الى أعمال البرّ ورعاية المساكين منفقاً ماله الخاص على الفقراء والمحتاجين.
يقول البهائيون وفي سن السابعة والعشرين حُمّل رسالة إلهية وأعلن بهاء الله أنه رسول من عند الله وما بُعِث إلاّ ليلبّي احتياجات عالم في عصر بلغت الإنسانية فيه مرحلة النضوج (3 )، وادعى أن الباب مثل موسى، وعيسى، ومحمد، جاء ليبشر بمجيء البهاء، وهذه هي مهمة جميع الأنبياء في زعمه، حيث بعثوا ليبشروا بظهوره، وقد نازعه كبراء هذه الطائفة في زعامتها، ولم يدخل بعضهم في دعوته الجديدة، وبقوا على بابيتهم.
كانت بشارة الباب بالبهاء عام ١٨٤٤م . فحُبِس الباب ثم نُفي داخل إيران كما لاقى أتباعه قسوة التعذيب والذبح والتنكيل بهم وبأطفالهم ونسائهم بسبب عقيدتهم، وفاق عدد القتلى منهم عشرين ألفاً على حد زعم البهائيين .
أعدم الباب عام ١٨٥٠م بأمر السلطات الدينية والمدنية في إيران بعد حبس طويل(4 ) ، ولكون بهاء الله كان من أبرز المدافعين عنه، فقد زُجَّ به في سجن مظلم في باطن الأرض في طهران مع بعض أصحابه (5 )، وفي ذلك المكان المظلم أعلن دعوته السرّية لمن حوله، وأنه المظهر الإلهي المنتظر. بعد أربعة أشهر أطلق سراحه عام ١٨٥٣م شريطة مغادرته إيران، فاختار الإقامة في بغداد التي أعلن فيها دعوته العلنيّة عام ١٨٦٣م 6( ). اهتمّ بهاء الله بشرح وبيان تعاليم الباب فكتب رسالتين: هما الكلمات المكنونة، وكتاب الإيقان. قدّم بهاء الله للأولى بقوله:﴿هذا ما نُزّل من جبروت العِزّة بلسان القُدرة والقوّة على النبيّين من قبل، وإنّا أخذنا جواهره وأقمصناه قميص الاختصار فضلاً على الأحبار، ليوفوا بعهد الله ويؤدّوا أماناته في أنفسهم، وليكونّن بجوهر التُّقى في أرض الرّوح من الفائزين﴾
أمر السّلطان العثمانى عبد الحميد الثانى بحضور البهاء إلى إستنبول وذلك بتحريض من السلطات الإيرانية ( 7). بعد وصول بهاء الله وصحبه إلى مدينة إستنبول في منتصف أغسطس (آب) ١٨٦٣ ، نما إلى علمهم قرار ترحيلهم إلى أدرنة، الّتي وصلوها يوم ١٢ ديسمبر (كانون أول) من نفس السّنة. واصل بهاء الله أثناء إقامته في هذه المدينة، وطيلة السّنوات الخمس التّالية، تفصيل أصول نحلته، وشرح النبوءات والوعود الإلهيّة الخاصة بمجيئه، وتهذيب وتقويم أخلاق أصحابه وأتباعه، وبيان نظامه لحفظ الأمن في العالم، وإقامة السّلام على قواعد العدل والتّآزر، ( 8) وضمّن ذلك رسائله إلى الملوك الّذين أنذرهم جمعًا وفرادى مغبّة رفض دعوته على حد زعمه (9 ).
هنالك ملأ الحسد قلب أخيه لأب، ميرزا يحيى، وانتهز المناوئون الفرصة لتقّسيم الأصحاب، وشجّعوه على المضيّ في غيّه، حتى إذا ما اشتدّت حدّة الخلاف بين الأتباع، طالبوا السّلطان بإبعادهم؛ فصدر الأمر بترحيل ميرزا يحيى ومشايعيه إلى قبرص، وسجن بهاء الله وصحبه في عكّا٣١ أغسطس ١٨٦٨.( 10)
واصل البهاء من السّجن إبلاغ دعوته إلى ملوك ورؤساء العالم، وفصّل في مئات من رسائله معالم النّظم العالمي الّذيابتدعه، وكتب كتابه الأقدس ، وحرّر كتاب عهده وميثاقه، وحدّد الهيئات والقيادات المستقبلة لإدارة أمر نحلته، وبيّن وظيفة وسلطة كلّ منها، وبقي في مَرْجِ عكّا حتّى مات في ٢٩ مايو (أيار) ١٨٩٢.
كان بهاء الله قد عين ابنه عبّاس أفندي، ليواصل بناء الجامعة البهائيّة العالميّة، ويرسي قواعد نظامها، ويحمي الدّين البهائيّ من التّشيّع والانشقاق، سواء بسبب خلافته أو بسبب تفسير تعاليمه وأحكامه؛ فنصّ بهاء الله على هذا التّعيين في وصيّة مكتوبة بخطّ يده، واعتبرها عهدًا وثيقًا بينه وبين أتباعه ، حتّى لا تتصدّع صفوفهم. وقام عبّاس أفندي على الأمر من بعد والده بوصفه مركز عهده، واختار لنفسه اسم عبد البهاء.
ولد عبد البهاء في عام ١٨٤٤ في نفس اللّيلة الّتي أعلن فيها الباب دعوته، وأدرك عبد البهاء منزلة أبيه وهو صبيّ في التّاسعة من عمره، قبل أن يعلن دعوته بعشر سنوات، ولازمه في منفاه بالعراق وتركيا ثمّ في سجن عكّا ساهرًا على تهيئة ما يعينه على تحقيق أهداف نحلته المبتدعه، وقام على خدمته ومناصرته.
لم تسمح ظروف النّفي والسّجن المستمرّين ليتلقّى عبد البهاء العلم في المدارس، فعلّمه والده ، ولم ينتهِ سجن عبد البهاء، إلاّ بعد عزل السّلطان عبد الحميد عام ١٩٠٩. وكان قد ناهز الخامسة والسّتين من عمره، وهنا بدأ أسفاره لبلاد الغرب، بعد التّوقف قليلاً في مصر.
يقول البهائيون وراسله صناديد الرّجال في العالم أمثال: الكاتب الرّوسي ليو تولستوي، والعالم السّويسري بروفسور أوجست فورل، والمستشرق أرمينيوس ﭭﺎمبري (هرمن) الأستاذ بجامعة بودابست، والأمير محمّد علي، والصّدر الأعظم مدحت باشا زعيم الإصلاح السّياسي في تركيا، والإمام محمد عبده، والأديب جبران خليل جبران، والمؤرخ والأديب السّياسي الأمير شكيب أرسلان، ورائد الصّحافة المصريّة الشّيخ علي يوسف، ومفتي الدّيار المصريّة الشّيخ محمد بخيت.
الجدير بالذكر أن أستاذنا الإمام محمد عبده كان قد غشه عبدالبهاء بقوله ( إن قيامهم لم يكن إلا لمقاومة غلو الشيعة وتقريبهم من أهل السنة) ، وقد صرح بذلك تلميذه العظيم السيد محمد رشيد رضا حينما قال ولقد دهشت أشد الدهشة إذ رأيت الإمام غير واقف على حقيقة دينهم ومصدقا ما كان سمعه من زعيمهم الداهية عباس أفندى نجل البهاء ومنظم دعوته وناشرها حتى أوقفته على ذلك . كان يجتمع بعباس أفندى أيام إقامته فى بيروت ، إذ كان عباس هذا يتردد إليها، ويصلى الصلوات الخمس والجمعة ، ويحضر بعض دروس الإمام ومجالسه، واستمر على مكاتبته بعد عودته إلى مصر ، ولدى عدة كتب منه إليه) (11 )
كان عبد البهاء قد أوصى بولاية الأمر من بعده إلى حفيده شوقي ربّاني، ليتمّم الخطّة الّتي وضعها من أجل استكمال النّظام الّذي وضع أصوله بهاء الله.
ولد شوقي ربّاني بمدينة عكّا في أوّل أيار (مارس) ١٨٩٧. بدأ تعليمه في مدارس حيفا، ثم انتقل إلى بيروت لمواصلة دراسته الّتي انتهت في جامعة أكسفورد. وتولّى عبد البهاء تربيته وتوجيهه بنفسه منذ طفولته، ووصفه بأنّه "أبدع جوهرة فريدة عصماء".
تولّى الأمر وهو في عنفوان الشّباب، وكرّس حياته لرعاية المسؤليّة الّتي تركها له عبد البهاء، وعمل على تنمية إمكانات العالم البهائيّ، وإرساخ جذور هيكله الإداريّ، ليقوم بتدبير شؤون جامعة عالميّة من بعده، ويحافظ على وحدتها. وبانتهاء ولايته اجتازت النحلة البهائية طور الرّئاسة المتمثّلة في شخص واحد إلى رئاسة تتمثّل في هيئات منتخبة على ثلاثة مستويات: المحافل الرّوحانية المحلّية على مستوى المدينة والقرية، والمحافل الرّوحانيّة المركزيّة على مستوى المملكة أو الجمهوريّة، وبيت العدل الأعظم على مستوى العالم. توفى شوقي ربّاني ليلة ٤ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٥٧م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1 ) المرجع الرّئيسيّ والمستند الموثوق به عند البهائيين عن بعثتَي الباب وبهاء الله هو الكتاب المكتوب أصلاً باللّغة الإنجليزيّة بقلم شوقي أفندي
Shoghi Effendi, God Passes By (Wilmette, Bahá’í Publishing Trust, 1987)
وقد ترجمه إلى العربيّة السّيّد محمّد العزّاوي بعنوان "كتاب القرن البديع: من آثار قلم حضرة وليّ أمر الله شوقي ربّاني" (من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، 1986). ومن كتب السّيرة كتاب حسن بليوزي بالإنجليزيّة
Hassan Balyuzi, Bahá’u’lláh; The King of Glory (Oxford, George Ronald, 1980)
ويقدّم أديب طاهر زاده عرضاً مسهباً لآثار بهاء الله الكتابيّة في كتابه الإنجليزيّ
Adib Taherzadeh, The Revelation of Bahá’u’lláh (Oxford, George Ronald, 1975) وهو كتاب في أربعة أجزاء.
(2 ) وقيل كان وزيرا .
(3 ) أنظر كتاب بهاء الله ، أُعدّت هذه المقدمة أصلاً باللغة الإنجليزية بمعرفة مكتب الإعلام التّابع للجامعة البهائيّة العالمية – الأمم المتحدة – نيويورك 1991، ص5.
(4 ) تمّ الإعلان عن دعوة الباب في المساجد والأماكن العامّة من قبل مجموعات متحمّسة من الشّبّان الذين كانوا يؤمّون المعاهد الدّينيّة. وكان ردّ فعل علماء المسلمين تحريض عامّة الشّعب على استخدام العنف ضدّ هؤلاء. وقد صادفت هذه الأحداث أزمات سياسيّة نجمت عن وفاة محمد شاه والصّراع الذي تلا ذلك حول من يخلفه في الملك. وقد قام زعماء الحزب السّياسيّ المنتصر في الصّراع، وهو الحزب الذي ساند الملك الصّبيّ ناصر الدّين شاه، بتوجيه الجيش الملكي ليحارب أتباع الباب المتحمّسين لدعوته. وقد اعتقد أتباع الباب، وهم الذين نشأوا وترعرعوا في بيئة إسلاميّة، أنّ لهم حقّاً مشروعاً في الدّفاع عن أنفسهم. فقام هؤلاء بتحصين أنفسهم في معاقل مؤقّتة وقاوموا صامدين لمدّة طويلة من الزّمن الحصار والهجوم الدّمويّ. وعندما تمّ التّغلّب عليهم وذبحهم بالإضافة إلى قتل الباب، أقدم شابّان مَهووسَان من الذين انضمّوا إلى صفوف أتباع الباب على اعتراض ركب الشّاه في أحد الطّرق العامّة وأطلقوا عليه رصاص الخُرْدُق الذي تُصطاد به العصافير. وكانت هذه محاولة طائشة لاغتيال الشّاه، وعلى أثرها تعرّض البابيّون للمذابح، وهي مذابح أثارت احتجاج السّفارات الغربيّة في طهران. وللاطّلاع على سجلّ لهذه الأحداث
W. Hatcher and D. Martin, The Bahá’í Faith: The Emerging Global Religion
(San Francisco, Harper and Row, 1985) ص6-32.
(5 ) أنظر كتاب بهاء الله ، ص11.
(6 ) بقى البهاء فى بغداد عشر سنوات .
(7 ) كتاب بهاء الله ، ص25.
(8 ) كتاب بهاء الله ، ص31 وما بعدها .
(9 ) نفسه ، ص58 وما بعدها .
(10 ) نفسه ، ص64.
(11 ) محمد رشيد رضا ، تاريخ الأستاذ الإمام ، 1/390.