قال أبو عبدالرحمن: لم أرَ في فلسفات القوم وَفْق مذاهبها المستقرَّة أيَّ رجعة لاحترام نظرية المعرفة التي تبحث بأناة وطمأنينة عن الدين الصحيح، وتُعيد للفكر ونوازع الخير رسالتهما أمام غرائز الشهوات والشبهات التي بُني عليها القانون الطبيعي؛ وإنما يوجد خارج نطاق الفلسفات من يحنُّ إلى شيئ ساد فباد عن الظِّلال الهانئة للأسرة كما في قول (بوشاسن): «تعالين أيتها (الصواب أيها) النساء اللطيفات والشَّبقات (من صنوف الشبق الاغتلام).. ابتعدن منذ الآن عن أخطار اللذات المُزيَّفة.. عن تلك الأهواء المندفعة.. ابتعدن عن الخمول والرخاوة.. اتبعن أزواجكنَّ الشبان في البوادي وفي الأسفار.. تحدَّينهم في التسابق فوق الحشائش الليِّنة والمحاطة (الصواب بدون واو عطف) بالورود.. عدن إلى باريس، وقدِّمن لأزواجكن المَثل (أي المثل النافع الذي يُقتدى به) في أعمال المنزل التي تناسب جنسكن.. أحببن تربية أبنائكن؛ فستعرفن كم هذا الأمر ممتع فوق كل المُتَع ؟!.. إن الطبيعة (بل الله سبحانه) وهبتكن السعادة.. ستشِخن بطيئاً عندما تكون حياتكن خالصة»؛ فهذا ذو حِسٍّ إصلاحي تقزَّز من فراغ البيت، ودناسة الأعراق، وضياع الهُويَّات، ونتن الدعارة، ورخاوة المدينة، والوحدة الخانقة للمتزوج والأعزب؛ لمخالفة شرع الله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، ونقوم لهن بالكفاية بمقتضى القَوامة، ويمنحننا السعادة أُنْساً في البيت، وحِفظاً للطرف أن يتذبذب ذات اليمين وذات الشمال، ونسعد معاً بالنسل منذ لُثغة الطفل في شبابنا نحن إلى حِياطتهم لنا بعد الله بالمرحمة والبذل في شيخوختنا.
. إن (بوشاسن) مدرك الثمار اللذيذة المغذِّية من شجرة الأسرة المباركة؛ فمع الطهارة من الدنس يكون العطف الصادق، والهُويَّة الخالصة، ويتكوَّن من الأسرة الواحدة أُسَرٌ كثيرة يجمعها أب واحد؛ فتوجد عاقلة في النوائب، ويوجد التكافل الاجتماعي الذي يُقَدِّم ذوي القربى، وتنمو نزعة المرحمة للجار والفقير والمبتلى؛ وهكذا ينقاد نظام المجتمع كله؛ فلا يسقط فيهم عاجز، ولا يستوحش بينهم مقطوعُ الشجرة، ويرتفع شُحُّ الأنفس والأنانية، ويحل مكان ذوي تلك الصفات العَفنة المذكورة آنفاً مَن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن ثَمَّ تَحُفُّ رحمةُ الله بالجميع.. ودعك من بضعة دولارات تدفعها الدول للعاجزين؛ فهذه لا تكفي دواء ولا غذاء ولا سكناً.. ودعك من رَيْعِ التأمينات التي أنهكت الفرد مدى عمره؛ فذلك الريع لا يمنحه نعمة الأسرة والمجتمع المتكافل، ولا يزيل عنه وحشة الوحدة وشبح العدمية اللازم الملازِم.
قال أبو عبدالرحمن: ميَّز الله العالم المسيحي بالتحذير من إضلال مَن قَبلهم وهم اليهود، وأشركهما معاً في إلغاء الحسبة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، وهذا هو الواقع اليوم؛ فإنهم أسقطوا الحسبة، وكان البديل الإغراء والتضليل لسلوك ما ينافي الحق والخير والجمال.. وميَّز الله العالم المسيحي بقرب مودتهم لنا؛ فلما لم يتَّعظوا بالحذر من يهود وإضلالهم، وابتلعتهم الصهيونية تضليلاً وابتزازاً وسيطرة وتخويفاً: صاروا منفذين لإرادتها؛ فذهبت تلك المودة، وتلاشى ذلك السماح، وورثوا عملهم الإرهابي بنشر الإلحاد والإباحية على وجه المعمورة، وظُلْمِ الشعوب، ونهب مواردها اغتصاباً أو بثمن الملح.. وجعلوا الدول الضعيفة المنهوبة قبل العولمة وبعدها سوقاً حتمياً لترويج صادراتهم بأغلى الأثمان؛ فكان ذلك الذي يدير خده الأيمن لمن ضربه على خدِّه الأيسر لا يبكي بقلبه ومشاعره على الأقل لمآسي العالم من جَرَّائهم كمآسي فلسطين والعراق، وتحقَّق مفهومُ (السياسة لا أخلاق لها) بكل عُرْيٍ ووقاحة.. وأمتنا يأبى دينها، وتأبى مروءتها ومَرْحمتها أن تُسوِّق الأوبئة للأمم الأخرى، وتاريخها شاهد على ذلك بخلاف يهود الأندلس الذين سمَّموا الآبار في بقاع العالم المسيحي فتساقط ملايين القتلى، ولم يكتشفوا الأمر إلا بعد الفوات، ولم يُوقِعوا بهم عقوبة القصاص المساوية لشناعة جرمهم.. وأمتنا يأبى دينها، وتأبى مروؤتها ومَرْحمتها أن يكون لها باطن خلاف الظاهر، أو أن يكون لها أوكار تعمل في الظلام لمكيدة البشر.. بل رسالتهم إسعاد البشرية، وباطنهم مثل علنهم ومثل شعائرهم على المنابر يؤديها المؤذن والإمام بأعلى صوت وأوضح إبانة؛ وإنما يكتمون خططهم الحربية ضد أعدائهم، ويأخذون بالمبدإ الشرعي (الحرب خَدْعة)؛ إذْ يُعَمُّون عن وِجْهتهم بعد إعلان البراءة من كل عهد أو ميثاق نقضه الأعداء (والخدعة بفتح الخاء المعجمة، وسكون الدال المهملة.. هذا هو الفصيح، وأجازوا ضم الخاء وكسرها، وضم الخاء وضم الدال)، ويمنحونهم المُهْلة بعد البراءة.. وسِرِّية المسلمين في مواجهة من يريد إيذاءهم وصدَّهم عن دينهم مبدأ رباني في كل الأديان، وهو مقتضى العقل الإنساني المشترك.. وبقيت أمور عن أمتنا في السابق واللاحق فيها مدخل للتضليل وكيد الشيطان، فيجب فضح جوانب الأغلوطات فيها.. وتكدير صفاء أمتنا آتٍ من العناصر التالية حسب تصوُّرهم هم:
1- أن التاريخ الإسلامي ليس على هذه المثالية التي أسلفتها؛ فقد حدث القتال بين الصحابة رضي الله عنهم من أجل الحكم، ومن أجل ذُحول تاريخية، وتبلور الأمرُ باغتصاب معاوية الحكم من صاحب الولاية الشرعية علي رضي الله عنهما.
2- أن حكام المسلمين حدث منهم استبداد، وحصل تجاوز كتأخير الصلاة عن وقتها.
3- أن المسلمين ورثوا ديار الأمم وأموالهم، وفتحوا بلدانهم عنوة، وحكموها قهراً، وكانت غنائم الحرب مما امتنَّ الله به على المسلمين.
4- أن الإسلام استباح الرق، وأخذ الجزية من الأمم.
5- أن المسلمين افترقوا في العقيدة الإيمانية، وتصدى بعض الخُلفاء لفرض وحماية أفكار اعتزالية.
6- أن ظاهرة التجاوز عند بعض الحكام وضحت بجلاء بخلاف سِيَر حكام آخرين ساروا على منهج أعدل من منهج أسلافهم كعمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى.
7- وجدت في تاريخ المسلمين أعمال ظلامية من حركات سياسية ناتجة عن أهواء عرقية ومذهبية، وهكذا بعض الأعمال الفكرية التي كشف عنها أبو حامد الغزَّالي في كتابه فضائح الباطنية، وكما في كتاب (إخوان الصفا)، وهو تأليف قوم لم يذكروا أسماءهم.
8- أن الحركيين من المسلمين اليوم قاموا بعمليات إرهابية فاجعة، واستباحوا العمليات الانتحارية التي تزعمون أن الإسلام لا يبيحها.
قال أبو عبدالرحمن: بعض العناصر التاريخية القديمة تصدَّى لها بعض المعاصرين الذين هُزموا روحياً وفكرياً بالتأويل كالزعم أن حروب المسلمين دفاعية.. والذي أدين لله به أنه ليس في ديننا شيئ نستحيي منه فنحاول كتمه أو تأويله، بل هو واقع على الصواب والحق الذي سأشرحه إن شاء الله، وفي تاريخنا ما يؤلمنا؛ ولهذا أعود لما وعدتُ به من بيان المِحَكِّ لما هو إسلامي محض، وهو شريعة الله المعروفة في مصادرها التوثيقية ثبوتاً ودلالة، وإنما نلتمس المِحَكَّ في تطبيق المسلمين لهذه الشريعة في سلكوهم (السيرة العملية)؛ فوجدناه عقيدةً محدَّداً موصوفاً حاملها بأنه ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم؛ ففحصنا تاريخهم؛ فوجدنا ما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على العصمة مِن الله الذي اختاره ربه لتبليغ الرسالة الربانية بيضاء لم تُشب، وبحثنا تاريخ الصحابة رضي الله عنهم فلم نجد عندهم شيئاً من الأفكار الضلالية التي افترقت عليها الأمة المنتسبة إلى قبلتنا.. ووجدنا سلوكاً عقدياً وسلوكاً عملياً معاً مردوداً إلى (الأمر الأول)، وهو ما عند (السلف الأول) الذين توزن بسيرتهم سِيَر إخوانهم من الصحابة رضي الله عنهم، ويعرف واقع الخلاف بينهم، وهم (أي السلف الأول) هم الذين على البراءة في تحرِّي الحق، والدينونة لله بذلك دون ميل للهوى.. والسلف الأول الذين هم الميزان هم الموصوفون بما هو اسم للجماعة كاسم القبيلة، وذلك في قول تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{سورة التوبة: 100}، فالصفة المحدَّدة هي أوَّليَّة السبق بالإيمان والجهاد والتميُّز بصفة المهاجرين والأنصار؛ فهو عرف عليهما يدل دلالة اسم القبيلة كقولك: التميميون والعامريون.. إلخ.. وَوَعْدُ الله لهم موجب بدون أي احتمال أنهم القدوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله قال عنهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{سورة التوبة:100}، وما دام هذا خبراً لا يدخله النسخ بإطلاق فالمقتدي إنما يريد هذا الوعد الكريم؛ فلا يجده إلا في مثل سيرة من ضمن الله له هذا الوعد.. ويُعْرف التابع لهم بإحسان بأن يكون إحسانه سلامةَ اتِّباع دون خلل مقصودٍ بالمقارنة بين سيرته وعقيدته وبين سيرتهم وعقيدتهم.. ومعلوم تاريخياً أن سبقهم الأول سَبْقَ إيمانٍ وهجرة وإيواء ومناصرة للدين بالنفس والمال ولو فقد الدار والأهل والعشيرة.. ثم ألحق الله سبحانه وتعالى بهم مَن لحق بهم على مثل ما هم عليه من الإيمان والهجرة والمناصرة؛ فقال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) سورة الجمعة، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{سورة الحشر: 10}، وقال تعالى عن السلف الأول ولاحقيهم: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{74} وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{75}(سورة الأنفال)، والذين حُفِظَتْ سيرتُهم وفتاواهم ورواياتهم من هؤلاء رضي الله عنهم معروفون بأعيانهم، ولا يدخل فيهم مثل عبيد الله بن جحش الذي هاجر إلى الحبشة وارتد ومات نصرانياً (وهو أخو عبدالله رضي الله عنه)؛ فهذا هلك ليس له سيرة محفوظة، وليس داخلاً في السابقين الأولين أهل هجرة الجهاد والمناصرة؛ فقد كانت هجرته قبل ذلك للحبشة فراراً من الأذى، وله أجره لو ثبت على دينه وعاد مع من عاد في واقعة خيبر، والسابقون الأولون المعنيون هم المُمَهِّدون الأمن لمن سيعود من الحبشة مؤمناً، وهم القدوة، وصحةُ الاتباع تُوزن بهم.
وأما القتال بين الصحابة رضوان الله عليهم الذي وصفوه بأنه من أجل الحكم، ومن أجل ذحولٍ تاريخية.. إلى ما ذكروه من انتهاء السلطة إلى معاوية رضي الله عنه اغتصاباً: فالحق في ذلك أن الخلافة بدأت بالإشارات الضرورية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي حَكَم جِلَّةٌ من العلماء على أنها نصٌّ على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه الخليفة بعده، والحق قول الإمام أبي محمد ابن حزم رضي الله عنه: إن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثابتة بالنص.. وقد بايعوه وهم مجمعون على أنه الأولى، وعهد بها رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه؛ لأنه وزير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنهما الإمامان اللذان أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهما، ثم عهد عمر رضي الله عنه بالأمر شورى لا تخرج عن ستة مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ، وهم مع أبي بكر وعمر من العشرة المشهود لهم بالجنة جميعاً رضي الله عنهم، ولم يعهد لابنه عبدالله الورِع بشيئ من الأمر سوى أن يكون مشرفاً شاهداً منظماً لأمر الشورى؛ فتم الاختيار لعثمان رضي الله عنه.. وههنا استراحة ضرورية، وهي أن الخلافة الاختيارية لا تكون بأصوات غوغائية مِن الأمة مَن غاب منهم ومَن حضر؛ وإنما تكون البيعة ممن حضر في دار الخلافة من عدول الأمة وعلمائها ومقدَّميها كزعماء العشائر والقرى، وإذا أُوجِبتْ البيعة وتم القبول لزمت كل من حضر ومن لم يحضر.. وتولى الأمر عثمان رضي الله عنه على مشارف فتنة أدركها عمر رضي الله عنه في آخر عهده عندما رأى شَغَب أهل الكوفة، وتعنُّتَهم بطلبهم عزل الولاة، وقد اشتكى عمر رضي الله عنه بذور هذه الفتنة، ولكن لا مجال لهذه البذور أن تظهر على المسرح الهمجي؛ لأن عمر رضي الله عنه فوق مستوى الشبهة؛ لعدالته وحنكته التي لا تعرف الحدود.. ومحقِّقو التاريخ وذوو الحسِّ التاريخي يعلمون علم اليقين أن الأجناد في البلدان المفتوحة مدخولون بكائدين من الشعوب المغلوبة يحنُّون إلى ملكهم السليب، وفيهم من هو على دين قومه الوثني أو الكتابي، وقد شدَّ عضدهم أكثرُ من سبعين يهودياً تسربوا من نجران بزعامة عبدالله بن سبإٍ ابن السوداء، وكلُّهم عقول مدبِّرة؛ فلما وليها عثمان رضي الله عنه على ضعفه وكبر سنه؛ إذ هو أكبر من صاحبيه رضي الله عنهم.
وقد أناف على ثمانين عاماً لما لقي ربه؛ فكانت له حسنات كبرى على سيرة صاحبيه كتوحيد المصحف على آخر عرضة مما هو مجموع قبله عند حفصة وغيرها رضي الله عنهم، وأما القراءات - متواترها، وغير متواترها فهي في صدور الصحابة والتابعين ومصاحفهم -، وكان رحيماً ودوداً كريماً.. وحصل منه اجتهاد ليس على منهج مَن قبله وهو تولية أقاربه، وإبقاؤهم في مناصبهم إلا في النادر، ومحلُّ اجتهاده أن الأمور اضطربت بعد الدخيل من الأمم المغلوبة، وتشوَّف للحكم من هم دون مستوى السابقين الأولين من المهاجرين؛ فرأى باجتهاده رضي الله عنه أن حماية الخلافة لن تكون إلا بحماية الثغور بعصابة من عشيرته، ولم يفرِّط في حق أحد، ولم يُغْضِ عن مظلمة متظلِّم.. والذين ألِفوا سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كطلحة والزبير رضي الله عنهما كان في نفوسهم شيئ من هذا الاجتهاد، وأما سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فكان منعزلاً، واشتد روعه رضي الله عنه بعد قتل عثمان فمات منعزلاً في مكان ناءٍ عن الحجاز رضي الله عنهما.. ولما جاءت الهيجة الأولى من الأجناد التي ضلَّل بها ابن سبإٍ ورفاقه وزنادقة الأمم - وهم يريدون شرا بعثمان والمدينة والصحابة رضي الله عنهم -: ندب عثمانُ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبحجته البليغة فنَّد كل مأخذٍ أوْردوه على عثمان، وأظهر جانب العذر لعثمان رضي الله عنه في كل مسألة؛ فانصرفوا خائبين.. ومع هذا فلم يسكت عليٌّ رضي الله عنه، بل طالب عثمانَ رضي الله عنه بأن يسير سيرة الشيخين رضي الله عنهما؛ فتعهد عثمان بذلك؛ فلما جاءت الهيجة الثانية وانضمَّ إليها الأجناد من مصر رجعوا بعد أخذٍ وردٍّ خائبين، ولو صح أن مروان بن الحكم رضي الله عنه تجرَّأ على الكتاب الذي سيرد ذِكره - وهو لا يصح - لكان ليس من السابقين الأولين الذين هم السلف؛ فلا يُقبل من سيرته إلا ما كان اتِّباعاً لهم بإحسان؛ فقد زعموا أنه أرسل كتاباً لأمير عثمان في مصر رضي الله عنهم بقتل وصلب الأجناد العائدين ليُثبِّت خلافة عثمان رضي الله عنه حسب نظره؛ فعادوا وكانت الكارثة بقتل عثمان رضي الله عنه، وما قصَّر الصحابة في حمايته (وعلى رأسهم عَلِيٌّ رضي الله عنهم) لولا أنه عزم عليهم عثمان رضي الله عنه بلزوم بيوتهم موقناً بما أخبره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفتنة التي ستناله فيموت شهيداً رضي الله عنه، ومع هذا ترك عليٌّ ابنه الحسن للدفاع عن عثمان رضي الله عنهم حتى وُجِدت يداه جامدتين من الدَّم، وهذه الهيجة فوق قدرة الصحابة رضي الله عنهم، ولقد دخل في الفتنة قوم صلحاء غُرِّر بهم؛ لأنهم حملوا مثل اجتهاد عثمان رضي الله عنه في التَّقَوِّي بعشيرته على مخالفة الشيخين والاستئثار بالأمر كمحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد جرَّ لحية عثمان رضي الله عنه؛ فقال يا ابن أخي: هذه اللحية التي تجرها طالما أكرمها أبوك.. فاستحيى محمد عفا الله عنه، ولا يصح أبداً أنه شارك مباشرة في قَتْل عثمان، وإنما ضُلِّل به فشارك في الهيجة والفتنة، والمؤكَّد أن قاتليه من الأجناد الطارئين على الإسلام.. ليسوا سلفاً ولا أتباعاً ولا كرامة، والمؤرخون على كثرتهم حائرون في تقصِّي أحوال الفتنة، وتعيين كل ذي جنايةٍ باسمه؛ وإنما قُتل مظلوماً، وكان قد تحرَّى الخير والمصلحة باجتهاده، كما أنه من السابقين الأولين الذين ضمن الله لهم الجنة.. وسرُّ الاختلاف أن العمل عمل ظلاميٌّ مبرمج له، وقد أظهر الأثبات أمثال الدكتور يوسف العش الخيوط الخفية بلا ريب للفتنة وإن لم تتعين كيفية إدارتها، وانظر كلامه في كتابه الدولة الأموية ص 44 - 46؛ فسترى أن الأمر سِرِّيُّ التدبير من الأجناد بتحليل ذكي ثاقب.. ثم هذا الذي حصل في عهد عثمان رضي الله عنه ليس صراعاً على الحكم من السلف، ولكنه مواجهة مِن السلف لضلال الأجناد ما بين كائدٍ للإسلام ومضلَّلٍ به بصيغة اسم المفعول، ولسماحة عثمان رضي الله عنه، وثقته بإخوانه من الصحابة رضي الله عنهم؛ إذْ لم يأخذ بشدة عمر رضي الله عنه: سمح لهم بمغادرة المدينة المنورة؛ فازداد حبهم له، ولكن وقع التأثير عليهم من الأجناد الخاسئة.
قال أبو عبدالرحمن: الله غالب على أمره؛ فإن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه لما تخلَّى عن الأمر وهو من أهل الشورى كان دأبه اختيار مَن هو أولى بعد أخذ العهد عليه أن يسير سيرة الشيخين رضي الله عنهم؛ فبدأ بعليٍّ رضي الله عنه فأبى عليُّ التعهد بما طُلب منه تورُّعاً منه أن يقع في التقصير؛ فما وجد أفضل من عثمان رضي الله عنه على كِبر سنه وضعفه، وقدر الله نافذ، وأخبار الشرع الصحيحة وردت بما سيحدث ابتلاء لإيمان الأمة، ولو تقلَّد عليٌّ رضي الله عنه الأمرَ أولاً، ووعد بالتزام سيرة الشيخين حسب قدرته لاختلف الوضع كثيراً؛ لأن جنده خيار الأمة في الحجاز، ولم يوجد بعد استفحال للتضليل؛ فينقل الخلافة إلى الكوفة.. ولكان يُغيِّر الأمراء بالتدريج، وينقل بعضهم كمعاوية رضي الله عنه إلى جهة أخرى؛ فلا يُعْرِق بالأعوان والاستقلال بالسلطة، ولن يوجد لديه أو لدى غيره إباء؛ لأنه لم ترد شُبَهٌ تقتضي التذرع، ولَحَسَمَ الأمر مع الأجناد ومَن في صفهم من الكائدين بحرب أو سلم.. وأما طمع معاوية رضي الله عنه في السلطة اغتصاباً؛ فهو غير لاحق بالسلف من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار إلا بما عنده من حُسْنِ الاتباع؛ لتأخر إسلامه؛ وإذن فهو إنما يوافَق بما كان منه اتباعاً بإحسان، وأهل بيته هم أهل السيادة على قريش في الجاهلية، وأبوه أبو سفيان رضي الله عنه زعيمها، وعلي رضي الله عنه ذو البلاء الباهر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فواجَه محاربة كفار قريش مبارزة وشقَّاً للصفوف بالإطاحة برؤوس صناديدهم، وفيهم زعماء الكفر من بني عبد مناف قوم معاوية؛ فمعاوية رضي الله عنه لكل هذه الأمور طامع في الأمر بلا ريب، مضمر أن يسير في الأمة بالعدل والحلم؛ فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكمَه مُلْكَ رحمة لا خلافةً راشدة، وجعل جيشه الفئة الباغية؛ فهو رضي الله عنه على الدين والإيمان وعلى القصور عن درجة الخلافة الراشدة، وما حصل منه من معصية في سبيل حماية ملكه فإن الله يكفِّره بمحاسنه التي هي أكثر؛ فقد استمرت الفتوح، وبقي للفتوى والقضاء كلمتهما، ومخالفةُ من خالف عن تقصير لا عن تشريع يُخالف الحق، وحمى بالله ثم بدهائه دولة المسلمين من التمزق بين الأحزاب؛ فيكون لكل قطر أمير مؤمنين، وإلى لقاء، والله المستعان.
وكتبها لكم / أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري ـ عفا الله عنه ـ
الجزيرة : الاثنين 10 ذوالقعدة 1431هـ العدد : 13899
http://www.al-jazirah.com.sa/2010jaz/oct/18/rj1.htm