ترجمة ابن حزم العلمية وبيان ملخص عقيدته
الفرق بين ظاهريته في الأحكام وزلاته في العقائد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، و الصلاة و السلام على من لا نبيَّ بعده.
أما بعد، فإن أكثر الناس إذا تاثروا بشخصية علمية بارعة وبارزة كابن حزم ـ رحمه الله ـ لم يقفوا عند حد ما أبهرهم فيه، بل يتجاوزون ذلك فيأخذون عنه الغث و السمين ، الحق و الباطل، وهكذا تنشأ المذاهب الباطلة أو التعصب المقيت في المذاهب الصحيحة .
و الواجب على طالب العلم إذا اقتنع بمنهج الظاهرية في الأحكام أن لا ينساق خلف ابن حزم بدون هدى، ولا بصيرة ،فيتبعه على أخطائه العظيمة في الاعتقاد و التوحيد .
نعم ،وبدون أدنى شك يوجد عند ابن الحزم من الصفات و التمكن في صناعة الخطاب العلمي ما يجذب الإنسان إليه
بسهولة ،إن لم يكن واسع الاطلاع ،وكما قيل في ابن حزم آخر ،هو أبو رافع الفضل بن علي بن حزم الأمير:
رأيت ابن حزم ولم ألقه **** فلما التقيت بــــه لم أره
لأن سنا وجهه مانـــــع **** عيون البرية أن تبصره
وحتى نعين إخواننا على تجلية هذا الأمر فهذه ترجمة علمية مختصرة لهذا الإمام الفذ تقف بنا على شهادة جهابذة العلم فيه، وعلى بعض زلاته التي على طالب الحق اجتنابها ،فلا يحملنه حبه لابن حزم على تبريرها أو تقليده فيها أو تكذيب حصولها،ولا هي جزء من الظاهرية إلا عند من لم يفقه معنى الظاهرية.
كلام القاضي عياض عن ابن حزم:
قال القاضي عياض في ترتيب المدارك وتقريب المسالك (8/122):
ووجد عند وروده بالأندلس [يقصد أبا الوليد الباجي المتكلم و الفقيه و الأصولي المالكي البارع ] لابن حزم الداودي، صيتاً عالياً وظاهريات منكرة، وكان لكلامه طلاوة، وقد أخذت قلوب الناس، وله تصرف في فنون تقصر عنها ألسنة فقهاء الأندلس في ذلك الوقت، لقلة استعمالهم النظر وعدم تحققهم به، فلم يكن يقوم أحد بمناظرته، فعلا بذلك شأنه، وسلموا الكلام له، على اعترافهم بتخليطه، فحادوا عن مكالمته. فلما ورد ابن الوليد الأندلس وعنده م الإتقان والتحقيق والعرفة بطرق الجدل والمناظرة ما حصله في رحلته، أمله الناس لذلك، فجرت له معه مجالس كانت سبب فضيحة ابن حزم وخروجه من ميورقة، وقد كان رأس أهلها، ثم لم يزل أمره في سفال، فيما بعد. وقد ذكر أبو الوليد في كتاب (الفرق) من تأليفه من مجالسته تلك ما يكتفي به من وقف عليه.))
قال ابن خلكان في (وافيات الأعيان)(2/325):
(( وكانت بينه وبين أبي الوليد سليمان الباجي - المذكور في حرف السين - مناظرات وما جرايات يطول شرحها، وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد يسلم أحد من لسانه، فنفرت عنه القلوب واستهدف لفقهاء وقته، فتمالأوا على بغضه وردوا قوله واجمعوا على تضليله وشنعوا عليه وحذروا سلاطينهم من فتنته ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ منه، فأقصته الملوك وشردته عن بلاده حتى انتهى إلى بادية لبلة فتوفي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة، وقيل إنه توفي في منت ليشم، وهي قرية ابن حزم المذكور، رحمه الله تعالى.
وفيه قال أبو العباس ابن العريف - المقدم ذكره: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين، وإنما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمة.))
كلام سيد علماء التراجم الذهبي في ابن حزم:
قال الذهبي في (سيرأعلام النبلاء){184/18}: (( قد مهر أولا في الأدب والإخبار والشعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيرا ليته سلم من ذلك، ولقد وقفت له على تأليف يحض فيه على الاعتناء بالمنطق، ويقدمه (4) على العلوم، فتألمت له، فإنه رأس في علوم الإسلام، متبحر في النقل، عديم النظير على يبس فيه، وفرط ظاهرية في الفروع لا الأصول.
وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكبا على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار.
قال الحميدي: وأقبل على العلوم الشرعية، وعني بعلم المنطق وبرع فيه، ثم أعرض عنه.
- قلت: ما أعرض عنه حتى زرع في باطنه أمورا وانحرافا عن السنة .
قال أبو مروان بن حيان: وقد أخذ المنطق - أبعده الله من علم - عن: محمد بن الحسن المذحجي، وأمعن فيه، فزلزله في أشياء، ولي أناميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين.))
هذا كلام الامام الذهبي في ابن حزم وهو كلام صهر بالعدل والانصاف .
كلام ابن تيمية عن ابن حزم :
حتى يعلم طلبة العلم موقع ابن حزم في قائمة العلماء بالنظر إلى قربهم من السنة أو بعدهم عنها في العقائد و الأحكام بكلام إمام خبير بالعلوم الشرعية و أعظم إنصافا من غيره أنقل كلام شيخ الإسلام الذي ذكره عنه في كتابه ( مفصل الاعتقاد ") من المجموع(17/4) .
(( وكذلك أبو محمد بن حزم – فيما صنفه من الملل و النحل – إنما يستحمد بموافقة السنة و الحديث، مثل ما ذكره في مسائل " القدر" و " الإرجاء " و نحو ذلك، بخلاف ما انفرد به قوله في التفضيل بين الصحابة، و كذلك ما ذكره في " باب الصفات" فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة و الحديث، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة، و يعظم السلف و أئمة الحديث، يقول : إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن و غيرها، و لا ريب أنه موافق له و لهم في بعض ذلك.
لكن الأشعري و نحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل و من قبله من الأئمة في القرآن و الصفات، و إن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان و القدر أقوم من غيره، و أعلم بالحديث و أكثر تعظيما له و لأهله من غيره، لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة و المعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ، و هؤلاء في المعنى [ كذلك أصاب رحمه الله في مسألة الاقتران والتأثير و كلامه فيها جيد] .
و بمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء و المتكلمين و علماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر و النهي و الاشتقاق، و كما نفى خرق العادات و نحوه من عبادات القلوب، مضموما إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، و الإسراف في نفي المعاني و دعوى متابعة الظواهر.
و إن كان له من الإيمان و الدين و العلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر [ مثل أبي بكر بن العربي المالكي الذي حط عليه في "العواصم" بما لا يليق في مثل ابن حزم ] و يوجد في كتبه من كثرة الإطلاع على الأقوال و المعرفة بالأحوال، و التعظيم لدعائم الإسلام و لجانب الرسالة، ما لا يجتمع مثله لغيره، فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، و له من التمييز بين الصحيح والضعيف و المعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء)).
وقال عنه في ( الدرء) (5/205): ((ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله في ذلك.))
((وفي هذا الباب، باب المضافات إلى الله تعالى، ضلت طائفتان: طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك، كإضافة البيت والناقة إليه، وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، حتى ابن عقيل وابن الجوزي وأمثالهما، إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك، وقالوا: هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات، كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسمى بـ نفي التشبيه وإثبات التنزيه، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في منهاج الوصول وغيره، وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة.
وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه إضافة صفة، ويقولون بقدم الروح، فمنهم من يقول بقدم روح العبد....))
هذا هو ابن حزم ـ رحمه الله ـ ما له و ما عليه على عظيم علمه وإيمانه و حبه الحديث و السنة و سعة اطلاعه فقد كانت له زلات كثيرة في العقيدة جاءته من تعظيمه للفلاسفة و افتنانه بزبالة عقول الاغريق : المنطق .
فهذا الحد الفاصل بين الظاهرية في الفروع و البدعية الجهمية في الأصول من باب العدل.
أما التشنيع عليه في المعاني بسبب الجمود على الظاهرية فهذا معروف ولا يعنينا في هذا الباب : التحذير من عقيدته ومن محاولة تصحيحها أو نفي الزيغ عنها.
ولابن حزم كتب منها : (النصائح المنجية من الفضائح المخزية و القبائح المردية من اقوال اهل البدع من الفرق الأربع : المعتزلة و المرجئة و الخوارج و الشيعة) وهو في آخر كتابه ( الفصل في الملل والأهواء و النحل) اتسم فيه فيما يخص نقل عقيدة بعض الفرق خاصة عقيدة الأشعري بالاضطراب، فلقد نسب إليه أقوالا هي لغيره، و لذلك قال السبكي
( ابن حزم لا يحقق مذهب الأشعري )).
و المؤسف أن ابن حزم ينقل أقوالا خاطئة و يبني عليها الجبال من الكلام، و الأغرب من كل هذا، و هو من أهل الحديث، كانت له صناعة جيدة فيه، لا يذكر أقوال السلف و لا يعرفها، فلذلك خرج بتلك العقيدة التي لم يكن له فيها سلف، فحتى داود الظاهري لم يقل بها.
وهو رحمه الله ممن يستحسن المنطق والفلسفة ،وخلط علمه بهما في العقائد والأحكام و إن كان من حفاظ الحديث ، و كانت له استقلالية في تقرير الأصول ،وفي كتابه هذا مباحث جيدة موافقة لأهل الحديث .
و باختصار شديد يعلم أهل العلم أن ابن حزم في العقائد كحاطب ليل، و أن عقيدته في الصفات و الحكمة و الإرادة و غيرها من أفسد العقائد، مع ماله من الفضل في الفقه و الأصول و السير.
كذلك له كتاب (الدرة فيما يجب اعتقاده)،(الأصول و الفروع).
ومن المسائل الشاذة التي خالف بها الاجماع دعواه أن أم موسى نبية هي ومريم ،وهذا قول لا يعرف عن أحد من السلف والأئمة، وقد ثبت في الصحيح عدد من كمل من النساء وليس فيهن أم موسى بل قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: ((كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم)) ...
مختــــــــــــــــــار الطيبـــــــــــــــــــــاوى