هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  دخولدخول  التسجيلالتسجيل  

 

 الأطلال بين الجمال الأدبي والأداء الفني

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبدالعزيز الحنوط
مشرف منتدى منهج أهل الظاهر
مشرف منتدى منهج أهل الظاهر



عدد المساهمات : 160
تاريخ التسجيل : 25/11/2010

الأطلال بين الجمال الأدبي والأداء الفني  Empty
مُساهمةموضوع: الأطلال بين الجمال الأدبي والأداء الفني    الأطلال بين الجمال الأدبي والأداء الفني  Icon_minitime1الأحد ديسمبر 12, 2010 1:04 am

الأطلال من روائع الأدب الرومانسي في الشعر العربي الحديث، وأتناولها ها هنا حسب منهجي النقدي، وهو منهج تفسيري جمالي، والأطلال هي المقاطع التي لحنها السنباطي، وهي أنجح نموذج للشعر الغنائي وجداناً.. ومن أنجحه من ناحية التعبير موسيقياً مقطعان أضيفا إلى الأطلال من قصيدة الوداع هما:
هل رأى الحب سكارى مثلنا
كم بنينا من خيال حولنا
ومشينا في طريق مقمر
تثب الفرحة فيه قبلنا
وضحكنا ضحك طفلين معاً
وعدونا فسبقنا ظلنا
***
وانتبهنا بعد ما زال الرحيق
وأفقنا ليت أنّا لا نفيق!
يقظة طاحت بأحلام الكرى
وتولى الليل والليل صديق
وإذا النور نذير طالع
وإذا الفجر مطل كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفها
وإذا الأحباب كل في طريق
وديوان ناجي طافح بما هو أشنع من كلمة (سكارى)؛ وذلك بكلمات الوثنية، وناجي لا يريد سكر الخمر، وإنما يريد سكر الحب.. وناجي ها هنا تمثل لحظات الوصل أبرع تمثل؛ فمع نعيم الوصل، وعزوب الهموم: تتدفق النفس بأحلامها، فتبني قصوراً من المنى.. واجتمع نعيم الوصل، وجمال الطبيعة؛ فكانت الفرحة تسبقهما وثباً.. والوثب لا يكون إلا عن نشاط ومرح، وجاءت براءة الأطفال في البيت الأخير، والمتسابقان لا يستطيعان سبق الظل ولكنهما يفقدان رؤيته مع سرعة العدو، وفي البيت الأول احتاج الألق الموسيقي إلى زيادة وحدة وزنية على منسوب البيت فكررت المؤدية (أم كلثوم) كلمة سكارى؛ فزاد في تنغيم الكوبليه جمالاً لحنياً يميزه، ولا بأس في ذلك ما دامت حددت وحدة لحنية ثابتة خلال الكوبليه، فالوزن حقيقة هو الوحدة الغنائية.. وعاد ناجي لصورة الحياة المجدبة في المقطع الثامن والسابع، وذلك بقوله:
يا لَمَنفيَّينِ ضلا في الوعور
دَمِيا بالشوك فيها والصخور
كلما تقسو الليالي عرفا
روعة الآلام في المنفى الطهور
طُرِدا من ذلك الحلم الكبير
للحظوظ السود والليل الضرير
يقبسان النور من روحيهما
كلما قد ضنت الدنيا بنور
إلا أنه أراح من الإسهاب في الأبيات الثلاثة الأولى بالبيت الأخير؛ كي تتحول كآبة العشاق الظرفاء الشعراء إلى أدب يبهج النفوس، ويجنِّح بالعواطف، ثم انتقل إلى التوحد بالحبيب على طريقة الصوفية بأسلوب واضح يفسده الشرح، ثم قال على طريقة العذريين – وهو يخلو من اللمسات الفنية:
أنت قد صيرت أمري عجبا
كثرت حولِيَ أطيار الربى
فإذا قلت لقلبي ساعة
قم نغرد لسوى ليلى أبى
حُجُبٌ تأبى لعيني مأربا
غير عينيك ولا مطلبا
أنتِ من أسدلها لا تدعي
أنني أسدلت هذي الحجبا
وأجمل ما فيه البيت الأخير.. كأنه يقول: ميزاتك المتفردة جبرتني على ألا أرمق غيرك، ثم عاد إلى تلك الحجب التي أسدلتها عليه ليلاه بأسلوب يومئ بالتفلسف في البيت الثاني والثالث؛ فإذا فتّشتَ لم تجد كبير معنى إلا المماحكة:
ولكم صاح بِيَ اليأس انتزعها
فيرد القدر الساخر دعها
يا لها من خطة عمياء لو
أنني أبصر شيئاً لم أطعها
ولِيَ الويل إذا لبيتها
ولي الويل إذا لم أتبعها
قد حنت رأسي ولو كل القوى
تشتري عزة نفسي لم أبعها
وموجز الأبيات أنه في حالات يأسه من وصال ليلاه يهم بالتطلع إلى غيرها من طيور الروابي.. هذا معنى صياح اليأس به، ولكن قدره أن يعيش رهيناً لحبها بحبه وغنائه.. ووصف هذه الحجب بأنها خطة عمياء؛ حيث لا يبصر وراءها جمالاً أو ألقاً فيطيعها، ولو أبصر شيئاً وراءها لكان بين ويلين: ويل الوحدة في الحب اليائس، وويل الذل الذي تركه بحريته.. وعلى أي حال فهذه المقاطع لا تخلو من الجفاف؛ إذا كان قدرها أن تقع بين قوله: (أين من عينيّ حبيبٌ ساحرٌ)، وبين قوله: (يا حبيباً زرت يوماً أيكه)؛ وبتداعي المعاني لا الخواطر عاد إلى صورة ثالثة من صور أيام المجد الغرامي، ولكن الصورة هذه المرة عند ناجي أمام متيمته مغنياً لآلامه كالطائر الحبيس في قفصه، وهي صور من النحيب لا معهود لها في تراثنا الأدبي:
يا حبيباً زرت يوماً أيكه
طائر الشوق أغني ألمي
لك إبطاء الدلال المنعم
وتجني القادر المحتكم
وحنيني لك يكوي أعظمي
والثواني جمرات في دمي
وأنا مرتقب في موضعي
مرهف السمع لوقع القدم
وقد غيرت الست كلمة (الدلال) إلى المدل، وذلك من حسن ذوقها.. ذوق في المعنى، وذوق موسيقي.. وشدة الشوق تقتضي شدة الرجاء، واستطالة الوقت؛ ولهذا جاء مقطع ناجي كله تأوهاً من ذلك الترقب؛ فتمنُّع ليلاه إبطاء مدل، والثواني جمرات، وهو في شكواه يستلمح وصلاً فلا يجد غير طول الانتظار وإرهاف السمع، والنتيجة أن يعود إلى شكوى أخرى؛ وإذ وصف شوقه بأنه غناء ألم فقد عاد في مقطع آخر يتشكى جفاء متيمته بأسلوب عادي واضح.. إلا أنه قدم للشكوى صورة تجسد شدة هذا الشوق الذي يغذي غناءه بالألم؛ إذ خطواته آذيُّ بحر هائج متلاطم الأمواج:
قدم تخطو وقلبي مشبه
موجة تخطو إلى شاطئها
أيها الظالم بالله إلى كم
أسفح الدمع على موطئها
رحمة أنت فهل من رحمة
لغريب الروح أو ظامئها
يا شفاء الروح روحي
ظلم آسيها إلى بارئها
ثم تجلى ناجي فنياً بهذا المقطع الثائر الذي يتمثل فيه شباب غرامهما وما اعتوره: من دنوه ووفائه، وتباعدها وإدلالها – وقد غنته أم كلثوم إلا الأخير، وزادت الوزن بمتحرك قبل الساكن:
أعطني حريتي أطلق يديّ
إنني أعطيت ما استبقيت شي
آهٍ من قيدك أدمى معصمي
لِمَ أبقيه وما أبقى علي
ما احتفاظي بعهود لم تصنها
وإلام الأسر والدنيا لدي
ها أنا جفت دموعي فاعف عنها
إنها قبلك لم تُبذل لحي
فهذه الصرخة لم يقلها ناجي بعد أن كانا طللين، وإنما تخيل أنه قالها أيام معاناته وروائها ولم ينضب معينه هو؛ فكأن هذه الصرخة تحسر على زمن لم يقدم فيه مثل هذا الاحتجاج العاتب، ولكنه استيقظ فوجد حاله حال العاتب لا الثائر، وذلك بعد أن كانا طللين؛ فختم بهدوء واعتذار لا يناسب ذلك الخصب (الاعتذار بأن الدمع لم يسعفه):
ها أنا جفت دموعي فاعف عنها
إنها قبلك لم تبذل لحي
واقتضى جمال الكوبليه اللحني سعة امتداد للموسيقى بزيادة متحرك، فنقلت القافية إلى صيغة (يديا)؛ فكان حسناً لا مزيد عليه وأسقط البيت الأخير؛ لأن قافيته غير قابلة للنقل، ثم شرح البيت الثاني بمقطع كامل فيه تكرار لما مضى من إجداب الحياة في الحب العاثر، ولكن بصور أخرى:
وهب الطائر عن عشك طارا
جفت الغدران والثلج أغارا
هذه الدنيا قلوب جمدت
خبت الشعلة والجمر توارى
وإذا ما قبس القلب غدا
من رماد لا تسله كيف صارا
لا تسل واذكر عذاب المصطلي
وهو يذكيه فلا يقبس نارا
إلا أن تكرار ذكر الإجداب هذه المرة جاء على سبيل الاعتذار من متيمته أول المقطع السابق، وهو اعتذار بمعنى العتب، ثم ختمه بالعتب الصريح وتحميله متيمته مسؤولية عذابه وإجدابه معاً؛ ليشرح فكرة البيت الأخير (لا تسل واذكر..) بمقطع آخر:
لا رعى الله مساءً قاسياً
قد أراني كل أحلامي سدى
وأراني قلب من أعبده
ساخراً من مدمعي سخر العدا
ليت شعري أي أحداث جرت
أنزلت روحك سجناً موصدا
صدئت روحك في غيهبها
وكذا الأرواح يعلوها الصدا
ومع العبارة الوثنية في كلمة (أعبده) نجد عتبه شبيهاً بالهجاء؛ إذ لا أمرّ في الهجاء من الوصف بتبلد الروح، وإنما وصفها بذلك عتاباً؛ إذ لم تنعم عليه بالوصل.. ولا يمل ناجي من تكرار معانيه؛ فقد كرر العتب ووصف الإجداب بهذا المقطع:
قد رأيت الكون قبراً ضيقاً
خيم اليأس عليه والسكوت
ورأت عيني أكاذيب الهوى
واهيات كخيوط العنكبوت
كنت ترثي وتدري ألمي
لو رثى للدمع تمثال صموت
عند أقدامك دنيا تنتهي
وعلى بابك آمال تموت
قال أبو عبدالرحمن: ومن حسنات الاختيار السنباطي الكلثومي التخلص من المعاني المكررة، واصطياد التناغم الموسيقي في مقاطع كاملة.. ثم تأتي هذه المقاطع الخالية من الألق مُكرِّرة كل ما مضى من معان، وذلك هو عيب القصيدة المطولة:
كنت تدعونيَ طفلاً كلما
ثار حبي وتندت مقلي
ولك الحق لقد عاش الهوى
فيَّ طفلاً ونما لم يعقل
ورأى الطعنة إذ صوبتَها
فمشت مجنونة للمقتل
رمت الطفل فأدمت قلبه
وأصابت كبرياء الرجل
***
قلت للنفس وقد جزنا الوصيدا
عجلي لا ينفع الحزم وئيدا
ودعي الهيكل شبت ناره
تأكل الركع فيه والسجودا
يتمنى لي وفائي عودة
والهوى المجروح يأبى أن نعودا
ليَ نحو اللهب الذاكي به
لفتة العود إذا صار وقودا
***
لست أنسى أبداً
ساعة في العمر
تحت ريح صفقت
لارتقاص المطر
نوحت للذكر
وشكت للقمر
وإذا ما طربت
عربدت في الشجر
***
هاك ما قد صبت الريح
(م) بأذن الشاعر
وهي تغري القلب إغراء
(م) النصيح الفاجر
وناجي في هذا الحب العاثر بين ذكريات مجد غرامي لا تغيب، وهذه الذكريات آمال وآلام ثم أطلال، وكل ذلك خليق بأن ينسيه أو أن يسلي نفسه بالنسيان بل الثورة (أَوَ كلُّ الحب في رأيك غفران وصفح؟!)، وهذا الموقف الجدلي رسمه بهذا التجنيح الموسيقي في الأبيات الثلاثة الأولى:
أيها الشاعر تغفو
تذكر العهد وتصحو
وإذا ما التام جرح
جد بالتذكار جرح
فتعلم كيف تنسى
وتعلم كيف تمحو
أو كل الحب في رأيك
(م) غفران وصفح
قال أبو عبدالرحمن: صاحب فوز العباس بن الأحنف كان يمحو بالدموع لا بالنسيان:
أخط وأمحو ما خططت بعبرة
تسح على القرطاس سح غَروب
وأما الريح فهكذا قالت لناجي، وهي ريح الغرام التي تغري القلب إغراء النصيح الفاجر.. أي تثير شهوات الجسد، ولكن الريح تسليه بالعاشقين الفاشلين قبله:
هاك فانظر عدد الرمل
(م) قلوباً ونساء
فتخير ما تشاء
ذهب العمر هباء
ظل في الأرض الذي
ينشد أبناء السماء
أي روحانية تعصر
(م) من طين وماء
ولكنه يبث الريح صادق حبه؛ فتريد أن تهيجه لولا شياطين الظلام (رمز اليأس والإجداب):
أيها الريح أجل لكنما
هي حبي وتعلاتي ويأسي
هي في الغيب لقلبي خلقت
أشرقت لي قبل أن تشرق شمسي
وعلى موعدها أطبقتُ عيني
وعلى تذكارها وسَّدت رأسي
***
جُنَّت الريح ونادته
(م) شياطين الظلام
أختاماً كيف يحلو
لك في البدء الختام
***
يا جريحاً أَسلَم الجرح
(م) حبيباً نكأه
هو لا يبكي إذا الناعي
(م) بهذا نبَّأه
أيها الجبار هل تصرع
(م) من أجل امرأة
وينهي بثه للريح بمقطع يحدد قصة حب الشاعر بأنها مجرد ذكريات عاصرة، ونهر جار.. وذلك رمز إخصاب الشاعرية:
يا لها من صيحة ما بعثت
عنده غير أليم الذِّكَر
أرقت في جنبه فاستيقظت
كبقايا خنجر منكسر
لمع النهر وناداه له
فمضى منحدراً للنَّهَر
ناضب الزاد وما من سفر
دون زاد غير هذا السفر
***
ويستسلم مقطع غنائي بعد هذا المقطع يستريح إلى حكم القضاء والقدر:
يا حبيبي كل شيء بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا
ذات يوم بعدما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله
وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته
لا تقل شئنا وقل لي الحظ شاء
***
ويختم أطلاله بهذه المقاطع عن جدوى نواح العشاق وأغاريدهم:
يا مغني الخلد ضيعت العُمُر
في أناشيد تغنى للبشر
ليس في الأحياء من يسمعنا
ما لنا لسنا نغني للحجر
للجمادات التي ليست تعي
والرميمات البوالي في الحفر
غنها سوف تراها انتقضت
ترحم الشادي وتبكي للوتر
***
يا نداء كلما أرسلتِهِ
رد مقهوراً وبالحظ ارتطم
وهتافاً من أغاريد المنى
عاد لي وهو نواح وندم
رب تمثال جمال وسنا
لاح لي والعيش شجو وظُلَم
ارتمى اللحن عليه جاثياً (م)
ليس يدري أنه حسن أصم
i i i
هدأ الليل ولا قلب له
أيها الساهر يدري حيرتك
أيها الشاعر خذ قيثارتك
غنِّ أشجانك واسكب دمعتك
رب لحن رقص النجم له
وغزا السحب وبالنجم فتك
غنه حتى ترى ستر الدجى
طلع الفجر عليه فانهتك
***
وإذا ما زهرات ذعرت
ورأيت الرعب يغشى قلبها
فترفق واتئد واعزف لها
من رقيق اللحن وامسح رعبها
ربما نامت على مهد الأسى
وبكت مستصرخات ربها
أيها الشاعر كم من زهرة
عوقبت لم تدر يوماً ذنبها
والبيت الأخير عودة إلى معاتبة القدر.
قال أبو عبدالرحمن: حينما يتغنى ناجي في الأطلال بنعيم الحب فإنما يعني ما حصله في سويعات من وصل على مذهب العذريين، وحينما يجهش بالبكاء فإنما يعني انقطاع سويعات السرور القصيرة.. وفي أول الأطلال اتجه إلى فؤاده ليناجيه عن قصة حبه، ولكن النجوى قصرت عند بيت واحد، إذ إنه لحظة الولادة لهذا المقطع لم يجد سعة لنجوى الفؤاد؛ فاتجه إلى النديم:
يا فؤادي رحم الله الهوى
كان صرحاً من خيال فهوى
أسقني واشرب على أطلاله
وارو عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً
وحديثاً من أحاديث الجوى
وبساطاً من ندامى حلم
هم تواروا أبداً وهو انطوى
كان حباً صادقاً؛ فوصفه بأنه صرح.. وكان عاثراً؛ فوصفه بأنه من خيال وترحم عليه؛ لأنه هوى.. ولم يهو هذا الصرح؛ لأنهما زهدا في بعضهما، وعزفا عن الحب؛ بل عوادي الدهر حالت دون تمتعهما، وأتت على وشائج الحب، إذ صارا طللين، وهذا التفصيل يأتي مكرراً في المقاطع.. وهو يطلب من النديم منادمة على أطلال ذلك الصرح الغرامي.. بمعنى أن يتهيأ فلا يكون بعد دفن الشؤون في كأسيهما غير ذلك الشجن.. وناجي مهيئ نفسه لهذا الغياب حيث دموعه تترقرق؛ فهو يريد مزيداً من الغياب لمزيد من البوح، وهو يوجه النديم بتسليمه مفتاح المنادمة بأن يبدأ بهذين التساؤلين:
كيف ذاك الحب أمسى خبراً
وحديثاً من أحاديث الجوى
وبساطاً من ندامى حلم
هم تواروا أبداً وهو انطوى
والبيت الأخير تفسير وتصوير لمعنى البيت قبله؛ فحديث الجوى هذا يفرش له بساط المنادمة؛ ولكن كما كان الحب في خبر كان كذلك كان الندامى؛ فقد طووا البساط وتواروا؛ إذن ناجي يبكي حبه كما يبكي نداماه.. ثم انصرف من إعداد التساؤل للندامى إلى البث من قبله هو بلغة يمتزج فيها العتب والصفح:
يا رياحاً ليس يهدا عصفها
نضب الزيت ومصباحي انطفا
وأنا أقتات من وهم عفا
وأفي العمر لناس ما وفى
كم تقلبت على خنجره
لا الهوى مال ولا الجفن غفا
وإذا القلب على غفرانه
كلما غار به النصل عفا
فهو في لحظته الراهنة يعاني عاصفة الحب الصادق، ولكن هيهات بعد أن أصبح أطلالاً ومصباحه ناضب الزيت خابي الجذورة.. وانتقل شعوره تلقائياً إلى عهد ما قبل نضوب الزيت وقوة العاصفة الغرامية؛ ليعبر بمرارة عن المحبوب الجاني الذي لم يحصل هموماً وأوهاماً ونكراناً مقابل وفائه.. ولا شيء يعذب النفس مثل صدق الحب والوفاء مع طرف يصد ويتجنى؛ ولهذا يتذكر مأساته بهذه الصورة:
كم تقلبت على خنجره
لا الهوى مال ولا الجفن غفا
فلم يمل إليه فينعم بدفئه، ولم يعتقه فيرتاح جفنه.. ويعبر ناجي عن طاعته الصادقة للحب (حب العذريين والرومانسيين الذي يجعل قدر العاشق سهراً وشكوى وألماً ورضا وصفحاً)؛ فيقول:
وإذا القلب على غفرانه
كلما غار به النصل عفا
لقد عجب ناجي من غرام أمسى خبراً، ونعى نفسه بعد نضوب الزيت وشدة العاصفة، وتألم من أمسه يوم نضب زيت مصباحه: غافراً جرم الحبيب المتجني، معلناً صفحه وعفوه.. ثم تذكر هذا الحب العريق العريض مع قصر ساعات السرور فيه:
يا غراماً كان مني في دمي
قدراً كالموت أو في طعمه
ما قضينا ساعة في عرسه
وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعة من عينه
واغتصابي بسمة من فمه
ليت شعري أين منه مهربي
أين يمضي هارب من دمه
والبيت الثاني يلتفت لبيت أبي العلاء المعري:
إن حزناً في ساعة الموت (م)
أضعاف سرور في ساعة الميلاد
والبيت الثالث كأنه يجسد حياة ناجي لمتيمته.. كأنه قضى عمره يغني لها أدبه للتجاوب معه بدمعة أو بسمة.. وهب أن ذلك حصل؛ فما قيمته وساعات السرور قصيرة كحلم؟!.
قال أبو عبدالرحمن: والمقطع الذي سيأتي مما شدت به الست بنت إبراهيم؛ فارتبطت ذكراه بالأذن العربية بتفاعل العبقريات الثلاث: شاعرية ناجي، وحلاوة لحن السنباطي، وعذوبة صوت الست.. وتكاد تندفن عبقرية الشاعر في العبقريتين الأخريين.. قال ناجي يخفف آلامه التي مرت بتذكر ومضات قليلة من ومضات الوصل التي نعم بها:
لست أنساك وقد أغريتني
بفم عذب المناداة رقيق
ويد تمتد نحوي كيدٍ
من خلال الموج مدت لغريق
آه يا قبلة أقدامي إذا
شكت الأقدام أشواك الطريق
وبريقاً يظمأ الساري له
أين في عينيك ذياك البريق
قال أبو عبدالرحمن: هذا لعمر الله غزل مجنح ليس في تراثنا مثله ألبتة، ويزيده حلاوة لهجة (الموق) بدل (الموج) –بين القاف والكاف في المخرج؛ وذلك من الحروف الفرعية– ألا ما أحلاها من لهجة!.. وبتركيب جديد وصف جمال الفم وهو مأوى القبل الحارة صوتاً وصورة معاً، وهذا البيت:
ويد تمتد نحوي كيد
من خلال الموج مدت لغريق
من يتائم المعاني التي يفرح بها كل معمم حلق بها ابن رشيق وغيره.. فهذا معنى يتيم لناجي وإن كان من المشهور عند العامة التشبيه بالغريق يتمسك بأي شيء يراه وإن كان ضعيفاً؛ ولكن المعنى رفعه من سوقية التعبير العامي إلى إيحاء فني.. وذكره أشواك الطريق يعني أنه لا يشكوها؛ مستعذباً كل شيء من أجلها.. والبيت الأخير تمرغ بين الأمس واليوم: (وبريقاً يظمأ الساري له).. هكذا كان بالأمس ولا يوحي بأنه بريق سراب؛ لأن السراب لا يظهر في السُرى؛ وإنما أراد جمال عينيها جمالاً يزيد العاشق ظمأ: (أين في عينيك ذياك البريق)؟!. أجل نضب البريق؛ فقد قدم ناجي للقصة نثراً بأنها أطلال جسد.. والبيت الثالث من المقطع السابق، والمقطع الذي بعده استثقلته الست؛ فلم تصدح به.
قال أبو عبدالرحمن: بل أحس أنه مقحم على تجربة الشاعر ومعاناته، وأنه غريب بأسلوبه الخطابي الفلسفي عن الغناء العاطفي الذي قبله.. قال:
لست أنساك وقد أغريتني
بالذرى الشم فأدمنت الطموح
أنت روح في سمائي وأنا
لك أعلو فكأني محض روح
يا لها من قمم كنا بها
نتلاقى وبسرينا نبوح
نستشف الغيب من أبراجها
ونرى الناس ظِلالاً في السفوح
قال أبو عبدالرحمن: هذا غزل عذري يتمظهر بأسلوب صوفي، والغزل الصوفي لا نصيب له من الجسد إلا عند عيارين حوروا فلسفة العشق الصوفي لاستباحة ما حرم الله من شهوات الجسد.. والمقطع الذي قبله حب عذري يغطس في الجسد، ولكنه يقنع بما دون المئزر؛ لأجل العفة.. وفي عدد من المقاطع يرد بث يبدو أنه متناقض، وسنظل أمناء مع طيب الذكر ناجي؛ فلا نحكم بتناقضها ونحن نجد لها من السلامة محملاً.. قال:
أنت حسن في ضحاه لم يزل
وأنا عنديَ أحزان الطَّفَل
وبقايا الظل من ركب رحل
وخيوط النور من نجم أفل
ألمح الدنيا بعيني سئم
وأرى حولي أشباح الملل
راقصات فوق أشلاء الهوى
معولات فوق أجداث الأمل
قال أبو عبدالرحمن: لا ينافي كونها أطلال جسد أن تكون حسناً في ضحاه لم يزل؛ لأن الجميل الذابل يشف عن بقايا حسنه، فهو يسليها بأنها على مسحات حسن وإن كانت أطلال جسد، ويتأسى على نفسه بأنه يعيش أحزان الطَّفَل (وهو وقت ذرور الشمس عقب أتعاب السهر) بهجره وحرمانه.. وقد ولّد ناجي معاني جديدة عن بقية العمر وفضلته وذلك قوله:
وبقايا الظل من ركب رحل
وخيوط النور من نجم أفل
إلا أنه في خيال محض؛ إذ لا بقاء لظل ونور بعد ركب ونجم أفل، ويأتي المقطع الذي بعده مكرراً ما أسلفه من معان عن خيبة حظه وتعثر حبه:
ذهب العمر هباء فاذهبي
لم يكن وعدك إلا شبحا
صفحة قد ذهب الدهر بها
أثبت الحب عليها ومحا
انظري ضحكي واقضي فرحا
وأنا أحمل قلباً ذبحا
ويراني الناس روحاً ظائراً
والجوى يطحنني طحن الرحى
وهكذا يأتي المقطع الذي بعده في السياق نفسه ولكن بإضافة تعبير وثني (وهدَّت معبدي).. استحلاه، وأنست له نفسه؛ لكثرة ما يرد في شعر وروايات الرومانسيين من أهل الكتاب:
كنت تمثال خيالي فهوى
المقادير أرادت لا يدي
ويحها لم تدر ماذا حطمت
حطمت تاجي وهدت معبدي
يا حياة اليائس المنفرد
يا يباباً ما به من أحد
يا قفاراً لافحات ما بها
من نجيَّ يا سكون الأبد
قال أبو عبدالرحمن: أراد حياته أدباً ومنادمة، وأذكر أنني منذ سبعة وثلاثين عاماً كتبت كليمة عن قصيدة إبراهيم ناجي (رسائل محترقة) التي مطلعها:
ذوت الصبابة وانطوت
وفرغت من آلامها
فوجدتها قطعة نثرية كاملة من رواية أجنبية رومانسية أظنها زنبقة الوادي لبلزاك، وهذا الحكم لا يصدق على هذا المقطع كما صدق على رسائل محترقة.. بيد أنه يدور في فلك الحب المخفق، وهذه المرة يكون تحطيم معبد ناجي –وهو تعبير وثني طالما استجره من الرومانسيين– من قبلها هي؛ لأنه لم يتم له الوصل الذي ينعم به قبل أن تكون أطلال جسد، وقبل أن تكون أحلامه تماثيل خيال.. وأنت ترى هذا المقطع يكاد يكون تكراراً للمقطع السادس: (أنت حسن في ضحاه..).. ثم رحمنا ناجي بهذا المقطع المجنح الذي تألق فيه ناجي غزلاً مشبباً ساحراً بمحاسن تهز المشاعر؛ ولهذا أيضاً تألق شدو الست بهذا المقطع يرقصه لحن السنباطي:
أين من عيني حبيب ساحر
فيه نبل وجلال وحياء
واثق الخطوة يمشي ملكاً
ظالم الحسن شهي الكبرياء
عبق السحر كأنفاس الربى
ساهم الطرف كأحلام المساء
مشرق الطلعة في منطقه
لغة النور وتعبير السماء
وهذا تشبيب لا معهود للذائقة العربية بمثله في كل شعرها التراثي الغزلي.. استعاد صورة متيمته أيام مجدها الغرامي في عيني خياله بلفظ سيتفرع عنه جمال الروح وجمال الجسد (ساحر)، ثم قدم بجمال الروح المتمثل في الأخلاق، ثم ثنى بجمال جسدي يحرك الروح أيضاً قبل أن يحرك الجسد في رغباته.. فكأنه أشبعك غراماً بمجرد مشية متيمته، ولم يتدن إلى محاسن جسدية فوق تلك، بل ختم بالبهاء في طلعته وآدابه، وذلك لغة النور وتعبير السماء.. ويزداد عجبك من سر هذا الجمال الفني وأنت تقرأ الأبيات الأربعة المشحونة بعواطف فكرية خلقية؛ فلا تجد مفردة غريبة، وفي الوقت نفسه لا تعاني ملل الابتذال في هذه اللغة الساحرة، بل زادها ألقاً بالعبقرية في تراكيب الجمل في هذه المضافات: ظالم الحسن.. شهي الكبرياء.. أحلام المساء، وقد تحتال لناجي؛ فتجعل (تعبير السماء) غير (لغة النور)؛ ففداء لأطلال ناجي أي إسهاب كهذا!!.. والبيت الأخير استثقلته الست فتجاوزته، ويظل ناجي في سياق استحضار الصورة الفاتنة أيام المجد الغرامي.. إلا أنه هذه المرة يستحضر الصورة؛ ليبين تاريخه المعايش لها فيقول:
أين مني مجلس أنت به
فتنة تمت سناء وسنى
وأنا حب وقلب ودم
وفراش حائر منك دنا
ومن الشوق رسول بيننا
ونديم قدم الكأس لنا
وسقانا فانتفضنا لحظة
لغبار آدمي مسنا
وكان ناجي في المقطع السابق أفرد حديثه عن متيمته وحسب، وقد استعار ناجي في هذا المقطع فلسفة سعدي الشيرازي وغيره من شعراء الفرس الذين تغنوا بعشق الفراش للَّهب.. وربما تسرع المتلقي بالعجب من حب يصفه ناجي بأنه عاثر وهو قد احترق في سناها، وحركه شراب لغير الصالحين فاستعرت حرارة اللذة؛ فهل للغبار الآدمي غير هذا المعنى؟!.. مع أن العذريين قنعوا بالهمسة واللمسة، بل قنعوا بالسقف يظلهما، بل قنعوا بأن الشمس مرت عليهما.. لكن ناجي استدرك الأمر، وبين أن الذي حصل حرارة شوق وحسب:
قد عرفنا صولة الجسم التي
تحكم الحي وتطغى في دماه
وسمعنا صرخة في رعدها
سوط جلاد وتعذيب طغاة
أمرتنا فعصينا أمرها
وأبينا الذل أن يغشى الجباه
حكم الطاغي فكنا في العصاة
وطردنا خلف أسوار الحياة
قال أبو عبدالرحمن: لو سمح الوزن فقال: وتعذيب الإله لكان هذا سوء أدب مع الله.. ويسمح الوزن بتنكير لفظ الجلالة (إله).. إلا أنه تنكير يجمع قبحين (ينفيهما المنطق والخلق والدين) هما: سوء الأدب، والوثنية معاً؛ لأن التنكير يعني تعدد الآلهة، ولا شيء في الجسم يكافح ثورة الشهوة الحمراء إلا وازع العقل والدين، والعقل خلق الله، والدين تنزيله؛ لهذا هرب ناجي إلى كلمتي جلاد وطغاة!!.. ولولا هذه البثور لكان هذا المقطع من أجمل ما افتخر به العذريون من سمو عاطفي.
وكتبها لكم / أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري ـ عفا الله عنه ـ

المجلة العربية : مجلة شهرية - العدد( 408 ) محرم 1432هـ - يناير 2011م
http://www.arabicmagazine.com/arabic/ArticleDetails.aspx?id=896
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الأطلال بين الجمال الأدبي والأداء الفني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: منهج أهل الظاهر :: مقالات أهل الظاهر من المعاصرين :: قسم العلامة ابن عقيل الظاهرى-
انتقل الى: